الوصال - فاطمة الحجرية

يومان كأنهما دهر من فرط تطاول ساعاتهما

وتثاقل دقائقهما ..

يومان من الحيرة والتساؤل والألم والأمل .

‎‫يومان من الخوف والرجاء والدعاء.

‎‫يومان لم يغُمض لنا فيهما جفن ، أو ينقطع لنا فيهما بحث .

‎‫يومان وأعيننا تحدّق في شاشات هواتفنا أملاً بأن تضئ بالرسالة المأمولة "وجدنا خالدًا على قيد الحياة".

‎‫يومان تقاذفتنا خلالها أمواج الشائعات المتلاطمة، وعملت فينا مباضع الأكاذيب تجريحا وتقطيعا.

‎‫يومان عايشنا فيهما شتى صنوف البلاغات الكاذبة والأخبار المختلقة.. وتجرعنا فيهما مرارات ما يَرِدُنا من  أهل  الفأل  السيء والتي  كانت في مُجملها تصرخ في وجوهنا بكل قسوة وعدم مراعاة لقلوبنا المتلهفة: لا تنتظروا عودة غائبكم ، فإنه قد مات !

تَردُنا الشائعات تباعا وهي تتسابق على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن أرقام مجهولة على هواتفنا الخاصة تقول لنا: إن أخاكم مات !

‎‫يحدث ذلك رغم أنه لم يتم حينها التثبت من خبر الرحيل الفاجع، ورغم أن أهل الفقيد وقتئذ كانوا يمسحون البحر بقلوبهم قبل عيونهم بحثا عن رأس خيط يقودهم إلى خالد الذي اختفى بين ظلمات البحر وأمواجه العاتية.

‎‫ يومان وأمي تنظر في أعيننا بحثا عن خالد.

‎‫يومان جفا فيهما النوم عيوننا ، وعافت نفوسنا الطعام ..  وكيف السبيل الى هدأة النوم ولذة الأكل ، وخالد مفقود  في عرض البحر؟!

 ‎‫حتى الماء أصبح غير مستساغ، وإن بلّلنا ريقنا يُخيّل لنا أنه مالح كملوحة البحر الذي أحاط بجسد خالد!

‎‫بضع رشفات ثم يُخيّل إلينا خالد وهو يرتشف مما أحاط به من ماء مالح.

‎‫كان الكثيرون  من حولي  ينهارون  ويفقدون الأمل ، ولكني تمسكت بأهداب هذا الأمل ، لأني

‎‫لم أتخيل أن خالدًا سيفقد الأمل.

‎‫كيف للقوي الشجاع أن يفقد الأمل ؟!

‎‫ظللت أردد " خالد شجاع لن يفقد الأمل، سيرجع وسيأخذكم بالأحضان جميعكم".

‎‫كنت أتخيله متماسكا بكل قوة, منتظرا الفرج ،  موقنًا بأن هنالك من سيأتي للبحث عنه وإنقاذه ، ليعود متلهفا ليحتضن  طفليْه ويعانق زوجته  الذين كانوا حينها يخيمون على رصيف الانتظار أملا في عودته.

‎‫سيعتذر لطفله الصغير محمد الذي قال له باكيا قبل أن يدخل البحر" بابا لا تذهب"!

‎‫سيدخل باب بيتنا بخطواته العريضة السريعة آخذا أمي في أحضانه معتذرا لها حينما نبّهته في الليلة السابقة لغرقه بألا يذهب للبحر فوعدها ألا يفعل ؛خوفا عليها  من أن تقضي يومها مشغولة البال به .

‎‫كنت آمل أن يرجع خالد ليخبرنا عن قصة عظيمة لنجاته من البحر، وكيف أن هذه التجربة ستصقل شخصيته.

‎‫ولكن المعركة التي خاضها خالد مع البحر لم تكن متكافئة.

‎‫معركة خاضها خالد وحيدًا وبلا مدد  ، وثبت فيها حتى النهاية ، كيف لا وهو  الذي أفنى عمره في خدمة بلده  في السلك العسكري حتى غدا "وكيل أول"  ومنتظر  بكل شوق أن يتم ترقيته بعد إجازة العيد ليكمل خدمته بتفان وفخر .

 في  ظهر  يوم الجمعة ، والناس تتهيأ  للتوافد  على المسجد لأداء صلاة الجمعة، كانت  أمواج الأشخرة  تتأهب لتأخذ  خالدًا وتغوص به بعيدا في  أعماق البحر ،  حاول أهالي المنطقة إخراجه  بـ "قلص" ولكن لارتفاع الأمواج وقصر الحبل ، لم ينجحوا  في إخراجه حتى اختفى من أمام أعين أحبائه زوجته وأطفاله وهو مودعا رافعا إصبع الشهادة لهم.

‎‫انطلق أهالي ولاية بدية للأشخرة ليكونوا قريبين من خالد ولتقديم يد العون في البحث،  كان في مقدمتهم إخوته ، ورغم تقديم بلاغ لم تتواجد إلا دوريات كانت تبحث على الشاطئ فقط! بينما خالد في ذلك الوقت كان في أمس الحاجة لأن تبحث عنه الدورية بالداخل، فضاع وقت ثمين لم تستغل خلاله كافة وسائل البحث الممكنة.

أهالي ولاية الاشخرة أظهروا تآزرا  وتلاحما وتكاتفا  مع أهل خالد بصورة جميلة يعجز اللسان عن وصفها ،  حتى عندما حل الليل وجن الظلام  لم يفقدوا الأمل  في العثور عليه فظلوا يبحثون بدون كلل أو ملل من غواصين و"ستيمات" دخلت في البحر بحثا عنه. بينما اقتصرت جهود  دورية   البحث على الساحل ، بل وانسحبت  مع حلول الظلام  معلنة  بأنها ستكمل بحثها في صباح اليوم التالي!

‎‫سبع ساعات بالتمام والكمال من لحظة ابتلاع الأمواج لخالد في الساعة الثانية عشرة ظهرا وحتى  الساعة السابعة مساء ، ورغم ذلك لم يتم العثور  عليه، وكأن ثمة قناعة باتت لديهم  بأنهم يبحثون عن جثة لا غير ، لذا أجّلوا عملية البحث لصبيحة اليوم التالي، وبعد انتظار 18 ساعة لاحت  طائرة مروحية( هيليكوبتر )  في سماء الأشخرة بحثا عنه، وبدأ الغواصون و القوارب بالدخول الى عمق البحر !

‎‫أتساءل الآن عما كان يفكر فيه خالد وهو يقاسي برودة  المياه ، وحلكة الظلام  من حوله ، ويعاني لسعات الجوع وجفاف العطش ، وارتعاشات الخوف .

‎‫ترتجف شفتاه انتظارا ويقينا وأملا أن تبذل الجهود لإنقاذه، إن لم يكن لخدمته لهذا الوطن ، فمن أجل روحه، يستحق أن تبذل جميع الجهود بحثا عنه لأجلي.

‎‫ ربما بدأ بفقد الأمل حينما بدأ الكون يظلم.

‎‫ربما كان يتساءل أين صوت الهيليكوبتر؟ لماذا مضى كل هذا الوقت ولم أسمع أصوات بحث قبل الظلام.

‎‫لماذا هذا السكون في ظلمة الليل وأين الأضواء التي تدل على أن هناك من يبحث عني؟

‎‫لم يدرك خالد أن كل وسائل البحث قد توقفت بعد أن حل الظلام! فوفقا للقانون لا يتم البحث أو السماح لخفر السواحل أو وسائل الإنقاذ بالاستمرار بالبحث بعد أن يحل الظلام.

‎‫ ربما نظر إلى القمر الذي كان ليلتها بدرا يبدد بعض هذا الظلام من حوله،  وحينها قد يكون طرأت على باله والدته  وهي تدعو له بعد أن خاصم النوم عينيها،  فقال لنفسه :  تلك دعوة أمي جعلت القمر ينير لي هذه الظلمة بطريقة استثنائية ليبدد خوفي ويعطيني الأمل.

‎‫أخاله بعد ذلك قد تماسك وسرت في أوصاله قوة خفية جعلته يقاوم ويصمد.

‎‫مضى يوم آخر وليلة اخرى ، ربما عندئذ بدأ اليأس يتسلل الى نفسك  ولم تعد تقوى على الصمود أكثر ، وهنا بدأت مشاهد شريط حياتك  تمر من أمامك ، منذ نعومة أظفارك وحتى لحظة دخولك البحر وإدراكك أنك لن تعود..

‎‫ساعات انتظارك التي بدت وكأنها سنوات طوال...

‎‫أحبابك وجميع الأشخاص الذين عرفتهم...

‎‫والمواقف التي تمنيت لو أنك لم تتصرف فيها على نحو معين...

‎‫تمنيت لو أنك أفصحت عن مشاعرك...

‎‫تمنيت لو أخبرت فلانًا كم تحبه..

‎‫تمنيت لو تحتضن شخصا معينًا: أمك ، زوجتك، أبناءك ،أختك ،أخاك، أو صديق.

‎‫ثم  يعتريك الخوف والحزن بأنك ستغادر ...

‎‫إنها لحظتك لتغادر... وفي النفس بقايا أمنيات وأحلام لم تكتمل بعد ..

‎‫ما أقسى أن تحين تلك اللحظة ولا يوجد من حولك من يمسك بيدك ويمسح على جبهتك ويقول لك لا تخف ولا تحزن أنا هنا بجانبك  .

‎‫وأنت الذي أملت أنك ستشيب وترى أولادك يكبرون ويتزوجون...

‎‫وربما ستتاح لك الفرصة لترى أحفادك.

‎‫أنت الذي ظننت أنك ستأخذ ابنك الصغير " علي بشامس" إلى الروضة في أول يوم له.

‎‫ثم تبكي لأنك لن تكون هنا.

‎‫ربما تنتحب وتصرخ بأعلى صوتك.

‎‫وفي لحظة تدرك أنهم فقدوا الأمل في العثور عليك ، ليس أهلك طبعا الذين مع أهالي المنطقة بذلوا وجازفوا  بأرواحهم بحثا عنك، بل تلك الدورية  التي حين  شرعت في البحث عنك دون أخذ لعامل الوقت في الحسبان  ،  وعندما خيّم الليل  تركتك وحدك تصارع أمواج البحر.

‎‫ثم ذكرى جميلة لا نعلمها قبل أن تفيض روحك لبارئها، تسللت لقلبك لتبعث فيه الطمأنينة والسكينة  ، وتبعث في أوصالك دفئا قبل أن تخور قواك .

‎‫يخيّل إلى أن يد أبي امتدت لك لتأخذك معها فابتسمت تلك الابتسامة العريضة بعد شوق ست سنوات، أنت الآن تراه يبتسم لك أنت الآن معه ، أخذت بيده  الممدودة  ، ليستسلم  جسدك المنهك الى تجاذب الأمواج ، بينما تحلق روحك عاليا وبجوارها ترفرف روح والدك .

‎‫ لازمتك تلك الابتسامة العريضة ، وكانت تزين  محياك الجميل  عندما وجدك اخوتك  بعد أن أعادك  البحر الى شطآنه، وكأنك تريد أن تبعث لهم  ولوالدتك المكلومة رسالة  مفادها أن اطمئنوا  فأنت الآن في أكرم جوار .

‎‫ هنيهة  تسلّل  فيها النوم لأعيننا  في صباح الأحد ، لنفيق مذعورين على صوت نحيب إحدى أخواتك  ،  لنتيقن بعدها أنه  نبأ  رحيلك  الفاجع ..

 ترجلت أيها الفارس المقدام صاحب النخوة ،المحبوب ،خفيف الظل،الذي عرفه الجميع  بدماثة الخلق وطيب المعشر  .

رحلت وبرحيلك ، رحل معك شيء من  قلوبنا.

‎‫

 رحلت وتركت لنا الذكريات ، أقساها معاناتك ما بين اللحظة  التي ودّعت فيها زوجتك وأنت رافعٌ أصبعك  بالشهادة وحتى اللحظة التي وُجِد  فيها جسدك  مبتسما يطفو على شواطئً الأشخرة ، وهي  لحظاتك الأخيرة التي تخيلناها وعشناها معك  ولكأننا  برفقتك في ظلمات البحر  ، ولكن تظل تفاصيلها الدقيقة عندك وحدك وأنت لست هنا لتخبرنا بها ، ولكن الشاهد تظل قصة رحيلك  مليئة بالعبر  التي ينبغي استصحابها للحد من المآسي التي تتفطر لها القلوب جراء ابتلاع أمواج البحر للأحبة  ..

نحن لسنا أول من فقد عزيزًا خلف أمواج البحر ، فهناك الكثيرون مروا بما مررنا به . كما أن هناك من ينتظرهم ذات المصير  غرقا ببحر  الاشخرة ، فاليوم خالد  وقد يكون غدا  سالم ، ناصر ،محمد، علي، راشد أو عبد العزيز ،  قد تكون مريم، عائشة، نور ،إلهام أو خلود.قد يكون أخاك ،أختك ،أباك،أمك ،ابنك أو ابنتك. وقد يكون احد أقاربك!

‎‫ لذا علينا  استخلاص الدروس من قصص الضحايا  برفع الوعي  وتطوير وسائل الإنقاذ .

‎‫لذلك باسم خالد وجميع الغرقى الراحلين ,لعوائلهم وأحبابهم سيتم قريبا تدشين حساب خاص يسعى لإنقاذ الأرواح من الغرق في الأشخرة من خلال طرح اقتراحات  بناءة للحكومة وللأفراد للحد بإذن الله  من هذه  المآسي المتكررة .

‎‫‎‫راجين الله تعالى أن يوفقنا في  هذا المسعى النبيل .  من أجل خالد، وغيره ممن فقدوا أرواحهم في لجج البحر .

‎‫وستظل فينا يا خالد شعلة للحب لا تنطفئ..

أحبك أخي .

‎‫ اختك فاطمة

……………………………………………………………………………

للاشتراك في خدمة أخبار الوصال على الواتسب ارسل “الوصال” على الرقم التالي :

http://wa.me/96879659657

--:--
--:--
استمع للراديو