الوصال - خولة الحوسنية 

أصعب أنواع الكتابة عندما تكتب ومصدر كلماتك قلبك الواقع في بئر على مسافة اثنان وثلاثون متراً تحت الأرض وأدناك ثلاثون متراً، تخرج الكلمات وكأنها أنفاس طفل يصارع من أجل الحياة على مدى خمسة أيام أو أقل كأنفاس الملايين التي انحبست من أجل لحظة خيبت أملهم بعد دقائق بسيطة من الفرح، الفرح الذي انتظرته أمهات جفت أعينهن من شدة البكاء وآخرون جفت ألسنتهم من الدعاء يتحينون وقت الصلاة لتكون ختامها سجدة دعاء من أجل ريان، أجساد أنهكها تعب سهر الانتظار لكنهم صمدوا فهم يعرفون أنه لم يكن كتعب وألم ريان، خمسة أيام لم نكن نعرف إلا ريان، خمسة أيام جعلتنا نتسمر أمام شاشات البث الحي ونراقب الترند في وسائل التواصل الاجتماعي لعل كلمة تبثُ الأمل في القلوب المكسورة، الكل كان يدعي ويتوسل إلى الله بأن تعود لتلعب بجوار ذلك البئر ولتشرب من بئر آخر، لتعود لبيت جدك وتتناول الفطور وتطلب من أمك وجبتك المفضلة للغداء ولتخلد للنوم في سريرك الصغير الذي لم يشبع منك فقد تكون قد انتقلت إليه منذ سنتين فقط بعد أن غادرت المهد. لم يعرف أبيك بعد ما هو مستواك الدراسي هل ستكون مشاغباً ام ابناً مجتهداً، لم تختر أمك حقيبتك المدرسية ولم تودعك إلى باب الباص كل صباح، لم يكتفي أخوتك من اللعب معك ولكن لماذا تركتهم وذهبت للعب بمفردك بجانب البئر؟


هي تساؤلات كثيرة ولدتها غصة عميقة في قلوبنا وذكرى مؤلمة في عقولنا فمن يمكن أن يلغي من الذاكرة ذلك المشهد ووجهه معفر بالتراب والدم يسيل عليه وحبل الأكسجين معلق أمامه، وأخبار وضعيته التي امتلئت بها رسائل هواتفنا ومانشيتات الأخبار العاجلة (حرك يده إلى فمه)، (حرك رأسه) ورسالة أخيرة (استلقى على جنب) وقد تكون تلك هي الحركة الأخيرة التي لم ترد بعدها أخبار عن وضعه في تلك الحفرة.


يا ترى هل كان يسمع صوت الحفارات وهي تشق الجبال للوصول إليه، هل تحدث إليه علي الصحراوي عندما اقترب منه في الأمتار الأخيرة حفراً بيده ليطمئنه، هل كان يستمع لدعاء الآلاف الذين تجمهروا على البئر وهم يرددون الأدعية ليلاً ونهاراً، هل كان يعرف أن أنشودة محمد الوهيبي (ستعود ريان) بثت فينا الأمل بعد أن طمئن ريان بأن لا يخشى من ظلام البئر وطمئننا أن الأرض أمه وكأنها رسالة من ريان يقول انتظروني سأعود ولكن عاد إلى بارئه.
بعد كل هذا الحدث الجلل هل ستقوى أسرته على المكوث في نفس المكان وهم يمرون يومياً على آثار الحفر وعلى مدخل البئر الكئيب؟!!


لكن لماذا ريان؟ كما يتساءل البعض وأقول البعض لأن هذا السؤال لم يتبادر إلى ذهني ولو للحظة لأن العاطفة والإنسانية تسري في قلوبنا فطرة وبدون استئذان، كما هو ريان الذي لم يستأذننا للدخول إلى قلوبنا لم يجبرنا على الدعاء له والبكاء خوفاً عليه، ولكن قد يكون تساؤلهم لأنه هناك آلاف الأطفال يموتون وهم يعذبون ويقتلون ويسقطون في آبار!! ولكن لم تكن ردة الفعل كما هي مع ريان، هل الإجابة كما قالها احدى مراسلو القنوات الإخبارية: (هو ملاك اتى ليجمع الأمه بعد شتات!!) نعم ريان تمكن من أن يجمعنا لنوحد الدعاء ويصلي الجميع من كافة الأديان من أجله وثم رحل حتى لا ننساه وعزائنا فيه أنه طير من طيور الجنة عند رب رحيم غفور، أو لأنه حالة جديدة مفردة في مكان لم يكن يعرفه الكثيرون بينما الأطفال الآخرون هم في مناطق صراع ودمار أعتدنا على سماع أخبار حزينة يومياً منها فلم تعد تأثر فينا كما يقول بعض المحللون، كثرت وستكثر التحليلات ولكن يبقى ريان استثناء لا يعرف سره إلا هو.. رحمك الله أيها الطير البريء قدرك ان تغادر تاركاً نهاية قصتك مفتوحة. نم بسلام في سريرك الأبدي أدعيتنا تحرسك


--:--
--:--
استمع للراديو